د. حنان درو يش عابد
كما أن تغيير المهنة يعتبر عملاً يتطلب الكثير من العصف الذهني والخطوات المنظمة، فإن الدخول إلى عالم الأعمال في قطاع الاستشارات أيضاً ليس بالمسألة التي تشذ عن القاعدة، إلا أن قطاع الاستشارات لخصوصيته يستحضر أثناء المبادرة إليه عدداً من القضايا التي تجعل الخطوة الأولى إليه ليست بسهولة الدخول إلى قطاعات أخرى. وهنا أسرد بعض معالم رحلتي لدخول هذا القطاع لعلها ستضيئ بعضاً من المعالم على الطريق! تلك الطريق التي ما كان لها أن تبدأ على أرض الواقع من دون تفعيل قيمة الاستشارة التي دائماً ما تكون ضوءاً في بداية نفق التردد والخوف من الفشل والجهل بالأشياء، لأنها توفر على الإنسان السير في طريق مجهول وتكسبه وقته الثمين من أن يهدر في محاولات غير سديدة.
ولم تكن الخطوة الأولى التي اتخذتها بمعزل عن الذهاب إلى عالم الاستشارات نفسه ليقدم لي الإرشاد، فحتى الخبراء يحتاجون في بعض الأحيان إلى توجيه. ومن خلال المختصين تمكنت من وضع اللمسات الأولى على خارطة طريق العمل الذي يجب أن أسعى إلى إنجازهــ، وهذا التوجيه كان له الأثر البالغ في قدرتي على تحديد رؤية أوسع للعمل، وبرز بشكل واضح في تعزيز قدرتي على تصحيح مجموعة من الخيارات التي كانت مرسومة، جنباً إلى جنب مع ما استلهمته من تجربة المستشار الغنية والتي أسهمت في إثراء رؤيتي الخاصة حول المشروع والتي من دونها كان من الممكن تفويت العديد من عناصر العمل الهامة والاستراتيجية، وهنا يمكن القول بأن المستشار يحتاج إلى الجلوس في مقعد العميل مستلهماً مستشاراً مثله، فكانت مرحلة الوعي تعني قدرتي على فهم أصول العمل واتجاهاته ودوره في مجتمع عالم الأعمال، مستلهمةً هذا الوعي أيضاً عبر العلوم المعرفية التي تمكنت من اكتسابها على امتداد سنوات مسيرتي الأكاديمية، لأنطلق عبر كل هذا الزخم المعرفي إلى فهم واقع السوق، وطبيعة حاجاته، ونوع الخدمات الاستشارية المقدمة فيه، جنباً إلى جنب مع سمات جودة تلك الخدمات، ودراسة اتجاهات إدارة الجودة الكاملة في هذا القطاع.
انطلاقاً من تلك الخطوات على مستوى الوعي بالمنتج، أصبح الطريق ممهداً لتعزيز العامل النفسي المهم في مسيرة الانطلاق نحو تأسيس عمل، وهي مرحلة الاهتمام الجدي والتي لا يمكن بلوغها من دون فهم ملامح العمل وعناصره واتجاهات السوق فيه، حتى لا يكون اهتماماً من النوع اللحظي القابل للتقلبات وفقاً لمشاعر الإنسان، وهنا يبرز دور التجهيز لمرحلة الشعور بالاهتمام بالمنتج أو الخدمة، لأن هذا الاهتمام حينها يصبح اهتماماً موضوعياً راسخاً ينتج عنه خطوات ناجحة في نهاية المطاف.
عند الدخول إلى مرحلة القرار، كانت تلك هي اللحظة الحاسمة بالنسبة لي. فتأسيس شركة، وتسخير رأس مال لها، والبدء بتحمل مسؤولياتها إدارياً ومالياً داخل سوق كبير كالسوق السعودي، وفي ظل شدة المنافسة فيه، مع تنوع كبير في شكل طموحات السوق واستهدافاته وانتقالاته الجوهرية في السنوات الأخيرة نحو معايير عمل عالمية أضيف إليها رؤية 2030، كانت كل تلك المسائل تشكل حالة من الصراع الذي يسبق اتخاذ القرار، ودائماً ما يحسم هذا الصراع قدرة الإنسان على أن يكون شجاعاً بما فيه الكفاية، خاصةً بعد أن يكمل مهمته في دراسة جميع جوانب العمل، ويستطيع أن يحدد بوضوح معالم خارطة طريقه القادمة.
انتقالاً إلى مرحلة الشراء، يمكن القول بأن الانتهاء من عملية التأسيس كان بمثابة الانطلاقة لتفعيل كل الأدوات السابقة. كان انتظار العميل الأول علامة فارقة لا شك أنها كذلك في كل مؤسسة. ولأن الجودة هي الضمانة الوحيدة للاستمرار في السوق، كان القرار هو أن الاهتمام بأول عميل يجب أن يطبق تجاه كل عميل لاحق بذات الروح والأدوات، بل وبروح وأدوات أفضل وخاضعة للتحسين المستمر، ثم كانت الانطلاقة ثابتة وراسخة لأنها قامت على أسس وعلى رؤية حقيقية.
انتهاءً من جميع المراحل السابقة، كانت متابعة سير العمل تقوم بالدرجة الأولى على مراقبة الجودة، وليس ثمة حوكمة قادرة على حسن إدارة عمل مؤسسي أفضل صفةً من حوكمة الجودة، لذا فكل مقاييس الأفكار والمبادرات ستنسجم معاً لتشكل علامة فارقة في السوق عندما تكون الجودة ومقاييسها وأدواتها هي الحاكمة فوق كل عنصر من عناصر الإدارة، وهذا ما تحرص عليه مؤسستي مع إشراقة شمس جديدة في كل يوم ومن دون تراجع أو كلل لأن الاستدامة في الأعمال رؤية قبل أن تكون هدفا