حين يصبح الانضباط المالي جوهر الحوكمة لا ملحقًا لها
المستشار محمد العمودي
تعيش الجمعيات الأهلية مرحلة مفصلية تعاد فيها صياغة دورها، ومسؤولياتها، وحدود مساءلتها أمام المجتمع والجهات التنظيمية. وفي قلب هذا التحول يبرز معيار السلامة المالية باعتباره ليس مجرد بند في منظومة الحوكمة، بل روحها العملية التي تكشف حقيقة ما يجري داخل المؤسسة: كيف تُدار الموارد؟ وكيف تُصنع القرارات؟ وكيف تُبنى الثقة؟
إن الجمعية التي تُتقن إدارة مالها، تتقن إدارة رسالتها. فالسلامة المالية ليست مهارة محاسبية، بل سلوك مؤسسي يمتد من مجلس الإدارة إلى أصغر عملية صرف يومية.
أولاً: السلامة المالية… معيار لكفاءة القيادة قبل كفاءة الإجراءات
الخطأ المالي لا يحدث فجأة، بل هو نتيجة مباشرة لثلاثة عوامل:
- ضعف في التخطيط
- ارتباك في الصلاحيات
- غياب في الرقابة
لهذا فإن معيار السلامة المالية لا يقيس الأرقام فقط، بل يقيس منهجية التفكير في الجمعية:
- هل تُدار الملفات بوضوح؟
- هل تُتخذ القرارات وفق سياسة؟
- هل يُنفّذ الصرف بناءً على احتياج حقيقي لا استجابة عاطفية؟
إن القيادة الواعية تُترجم نضجها في ضبط المال قبل ضبط اللوائح، وفي حماية الموارد قبل طلب المزيد منها.
ثانياً: روافد السلامة المالية الخمسة
السلامة المالية ليست غاية بحد ذاتها، بل هي ممارسات يومية تحوّل المال من قيمة مادية إلى قيمة مؤسسية. وهذه ممارساتها الأساسية:
- الشفافية
لا قيمة للمال إذا لم يعرف المجتمع كيف أُنفق. الشفافية هنا ليست نشر أرقام، بل نشر قصة المال: لماذا صُرف؟ وما أثره؟
- الرقابة الداخلية
كل جمعية لا تملك رقابة داخلية فعالة، تعيش في منطقة رمادية مهما حاولت التجمّل خارجيًا.
- الالتزام بالأنظمة
المشكلة ليست في الأنظمة، بل في تفسيرها. والجمعية الناضجة لا تتعامل مع الأنظمة كموانع، بل كحماية.
- كفاءة الإنفاق
الكفاءة ليست تقليل المصروفات، بل زيادة الأثر مقابل الريال.
- التقارير المالية الموثوقة
القائمة المالية ليست وثيقة محاسبية فقط، بل أداة قيادية لصناعة القرار.
ثالثاً: العلاقة بين السلامة المالية واستدامة الجمعية
لا يمكن لجمعية أن تطلب دعمًا إضافيًا وهي تعاني ضعف الحوكمة المالية. ولا يمكن لها أن تبني شراكات قوية دون أن تُظهِر للعالم أنها تستحق الثقة. إن الاستدامة الحقيقية تبدأ من ثلاثة محاور:
- تنويع مصادر الدخل
- إدارة حكيمة للنفقات
- احتياطي مالي مقاوم للمخاطر
والجمعية التي تحقق هذه العناصر، تُصبح أقل اعتمادًا على الظروف، وأكثر قدرة على التخطيط الطويل المدى.
رابعاً: متى تفقد الجمعية سلامتها المالية؟
تبدأ خسارة السلامة المالية غالبًا من نقاط صغيرة:
- إيصال غير مكتمل
- مصروف غير موثق
- تفويض غير محدد
- قرار مزاجي
- تقرير غير دقيق
هذه التفاصيل البسيطة تتحول مع الوقت إلى فجوات كبرى تهدد سمعة الجمعية، وتُضعف درجة حوكمتها، وتُفقدها ثقة الجهات المانحة والمجتمع.
خامساً: السلامة المالية… مسؤولية الجميع
المحاسب يُنفّذ، لكن القائد يوجّه. ومجلس الإدارة يراقب، لكن الثقافة المؤسسية هي التي تحمي. ولهذا، فإن معيار السلامة المالية ليس دورًا لقسم واحد، بل:
- التزام من المجلس
- وعي من الإدارة
- انضباط من الفريق
- ومسؤولية أمام المجتمع
في القطاع غير الربحي، المال ليس ملكًا للجمعية… بل حق للمستفيد. وحين تفهم الجمعية هذا المعنى، يتغير كل شيء:
تصبح السياسات أكثر وعيًا، وتصبح القرارات أكثر حكمة، ويصبح الأثر أكثر صدقًا.
وعندها فقط تستطيع الجمعية أن تقول بثقة:
“ندير مواردنا باحترام… ونصون رسالتنا بأمانة.”